شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري
ومعلوم أن بعث معاذ إلى اليمن في آخر حياة الرسول – صلى الله عليه وسلم- كما سبق.
كما فيه: أنه يجب على إمام المسلمين بعث الدعاة إلى توحيد الله تعالى، وتعليم الناس شرائع الإسلام، وأمرهم بالتزامها، وجباية الزكاة، ودفعها إلى مستحقيها، الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ} الآية ( [1] ).
وفيه: أن الإنسان لا يصير مسلما إلا إذا وحد الله -تعالى – بالعبادة، بأن لا يقصد بعبادته غير الله، بل تكون عبادته كلها لله وحده، وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأما معنى شهادة أن محمداً رسول الله هو: أن يعبد الله بما جاء به الرسول-صلى الله عليه وسلم-، والإيمان بأن الله أوحى إليه أوامره، ونواهيه، وكلفه إبلاغ الثقلين ذلك.
وفيه: أن أي تعبد يتعبد به العبد غير معتبر، ولا معتد به بدون التوحيد.
وفيه: أن أخذ خيار المال في الزكاة ظلم يجب اجتنابه.
وقصد البخاري – رحمه الله – بيان أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قد بين للناس التوحيد بأنواعه، وأنه أول واجب، وأول ما يدعى إليه، فلا حاجة بعد بيانه إلى بيان أحد من الناس، كما تقدم.
قال شيخ الإسلام:" وقد علم بالاضطرار من دين الرسول – صلى الله عليه وسلم- واتفقت عليه الأمة، أن أصل الإسلام، وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلماً، والعدو ولياً، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال، ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان.
ص40
و إن قال بلسانه دون قلبه، فهو في ظاهر الإسلام، دون باطن الإيمان " ( [2] والبخاري – رحمه الله – في بدئه كتاب التوحيد بهذا الحديث، يشير إلى الرد على المتكلمين الذين جعلوا عمدتهم، في إثبات ما يثبتون، ونفي ما ينفون: العقل.
فهذا الحديث دل على أن أول ما يجب على العبد: عبادة ربه تعالى بامتثال أوامره، واجتناب ما نهى عنه، وأن المقصود من الدعوة: وصول العباد إلى ما خلقوا به، من عبادة الله تعالى وحده لا شريك له.
ولا سبيل إلى ذلك إلا باتباع الوحي الذي جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم- فيجب أن يتبع، وأن يكون هو الأصل المعول عليه في معرفة عبادة الله، والإيمان به، وبرسله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر، والإيمان بأسمائه وصفاته وعبادته بها، خلافاً لطريقة المتكلمين، الذين جعلوا عمدتهم عقولهم في إثبات وجود الله تعالى، بناء على حدوث الكون، ثم إثبات صفاته نفياً وإثباتاً بالقياس العقلي، ثم إثبات النبوات، ثم بعد ذلك يتكلمون في السمعيات.
وهذه طريقة المعتزلة، والكرامية، والكلابية، والأشعرية، غير أن الأشعرية سلكوا هذه الطريقة في الأصول الاعتقادية العلمية، دون العملية.
و أما المعتزلة فلم يفرقوا بين العقيدة والعمل في القياس العقلي، حتى إنهم ينظرون إلى القدر المشترك في الأفعال بين الرب والعباد، فما كان حسناً من العباد في نظرهم، فهو عندهم حسن من الله تعالى، وما كان قبيحاً منهم، فهو من الله تعالى قبيح، ولهذا سماهم أهل السنة: مشبهة الأفعال، نفاة الصفات.
ص41
3-"حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبي حصين، والأشعث بن سليم، سمعا الأسود بن هلال، عن معاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: " يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟" قال: الله ورسوله أعلم، قال: " أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً أتدري ما حقهم عليه؟" قال: الله ورسوله أعلم، قال:" أن لا يعذبهم ".
جاء بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس، وأبلغ في التعليم؛ لأن الإنسان إذا سئل عن شيء لا يعلمه، ثم أخبر به بعد الامتحان بالسؤال صار ذلك أدعى لفهمه وحفظه.
وهذا من حسن تعليمه، وإرشاده – صلى الله عليه وسلم-، وهذا الأسلوب ورد عنه – صلى الله عليه وسلم- كثيراً.
يقال: درى يدري دراية: إذا عرف، فالدراية هي المعرفة.
و"الحق": كل موجود متحقق، أو ما سيوجد لا محالة، ويقال للكلام الصدق: حق؛ لأن وقوعه متحقق، لا تردد فيه، ولأنه مطابق للواقع، وكذا المستحق على الغير، إذا كان لا تردد فيه، فهو حق.
والمراد هنا " ما يستحقه الله تعالى على عباده، مما جعله متحتماً عليهم، وألزمهم إياه بخطابه" ( [3] ).
فحقه تعالى على عباده: أن يعبدوه، مخلصين له العبادة، ممتثلين ما أمرهم به وأوجبه عليهم،وأعظمه التوحيد، ومجتنبين ما نهاهم عنه، وحرمه عليهم، وأعظمه الشرك، فإذا فعلوا ذلك، فحقهم عليه أن يغفر لهم، ولا يعذبهم، وأن يدخلهم الجنة، وقد وعدهم ذلك، ووعده حق لا يخلف.
قوله: " الله ورسوله أعلم" يؤخذ منه حسن الأدب في التعلم، وأنه لا ينبغي لمن سئل عما لا يعلمه أن يتكلف الجواب بدون يقين، ولكن يكل العلم إلى عالمه.
" ذكر يعقوب بن سفيان بإسناده، عن ربيعة قال: قال ابن خلدة: إذا جاءك الرجل يسألك، فلا يكن همك أن تخرجه مما وقع فيه، وليكن همك أن تتخلص مما
ص42
سألك عنه" ( [4] ).
قوله: " أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً " المراد بالعبادة: فعل الطاعات، واجتناب المعاصي.
والعبادة في اللغة هي: الذل، والخضوع.
قال الأزهري: " معنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع، يقال: طريق معبد، إذا كان مذللاً بكثرة الوطء وبعير معبد إذا كان مطلياً بالقطران" ( [5] ).
وقال الجوهري: " أصل العبودية: الخضوع والذلة، والتعبيد: التذليل، والعبادة: الطاعة، والتعبد: النسك" ( [6] ).
وأما العبادة الشرعية فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية:" العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة" ( [7] ).
وقيل: هي كمال الحب مع كمال الخضوع؛ لأن الحب الكامل مع الذل التام يتضمن طاعة المحبوب، والانقياد له، فالعبد هو الذي ذلله الحب والخضوع لمحبوبه، فطاعة العبد لربه تكون بحسب محبته وذله له.
عينى عينك حوريات انجليزى وعطف على العبادة عدم الشرك؛ لأن العبادة لا تنفع عند الله ولا تعتبر إلا إذا كانت خالصة من الشرك.
والمشركون كانوا يعبدون الله، ويعبدون معه غيره، ولهذا اشترط نفي الشرك. والجملة حالية، والتقدير: يعبدونه في حال عدم الإشراك به.
قال ابن حبان: عبادة الله: إقرار باللسان، وتصديق بالقلب، وعمل بالجوارح.
ولهذا قال في الجواب:" فما حق العباد إذا فعلوا ذلك؟ فعبر بالفعل، ولم يعبر بالقول" ( [8] ).
ص43
قوله: " أتدري ما حقهم عليه؟" فسره بقوله:" أن لا يعذبهم".
وفي الرواية الأخرى:" أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً" ( [9] )، والتقدير: أن لا يعذب من يعبده، ولا يشرك به شيئاً؛ لأن عدم الشرك مع عدم العبادة لا ينفع، وهذا معلوم من نصوص الشرع.
قال الحافظ: " اقتصر على نفي الشرك؛ لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء، ويستدعي إثبات الرسالة باللزوم، إذ من كذب رسول الله فقد كذب الله، ومن كذب الله فهو مشرك، أو هو مثل قول القائل: من توضأ صحت صلاته، أي مع سائر الشروط، فالمراد: من مات حال كونه مؤمناً بجميع ما يجب الإيمان به" ( [10] ).
وحق العباد على الله تعالى هو من فضله وكرمه، وليس استحقاق عوض وجزاء، كما تقول المعتزلة.
والناس في هذه المسألة ثلاث فرق:
منهم " من يقول: للمخلوق على الله حق يعلم بالعقل.
فهم يقيسون الخالق تعالى على المخلوق – كما تقدمت الإشارة إليه -.
ومنهم من يقول: لا حق للمخلوق على الله تعالى بحال، ولكن يعلم ما يفعله بعبده بحكم وعده وخبره.وهذا قول أتباع جهم، وبعض من ينتسب إلى السنة.
ومنهم من يقول: بل أوجب الله تعالى على نفسه حقاً لعباده المؤمنين، كما حرم الظلم على نفسه، ولم يوجب ذلك عليه مخلوق.
ص44
ولا يقاس بمخلوقاته تعالى، بل هو برحمته، وحكمته، وعدله، كتب على نفسه الرحمة، وحرم على نفسه الظلم، كما في الحديث الذي في "صحيح مسلم" وغيره ( [11] ) "يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا".
وقال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ( [12] )، وقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ( [13] ).
وعليكم بالدعء اخوانى.. فى ظاهر الغيب ليقول لك الملك ولك بمثل